ظهر هذا المصطلح الجديد؛ وهو (الزنديق) أكثر ما ظهر في العصر العباسي وانتشر وأصبح يقال: هذا رجل زنديق، أو متهم بالزندقة، فأصل هذه الكلمة كما قال بعضهم: إن الزندقة مأخوذة من كتاب كان يؤمن به المجوس يسمونه (زندفسته ) وهذا (الزندفسته ) هو كتاب المجوس، فكانوا يتهمون من يظهر الإسلام وهو في الحقيقة غير مؤمن؛ بالزندقة؛ لأنه يعتقد ما في كتاب الفرس.
وقال آخرون: الزندقة مأخوذة من كلمة (زندكي)، والعرب يقلبون الكاف قافاً؛ فإذا نطقوا أي علم أو كلمة غير عربية فإنهم ينطقونها على قواعد لغتهم؛ فمثلاً الفرس كانوا يقولون: (خسرو) أي: ملك الفرس، وعند العرب لا يمكن أن يأتي اسم آخره واو قبلها حرف مضموم، وكذلك الخاء استثقلوها فقلبوها كافاً فصارت الكلمة عند العرب (كسرى)، فلما جاء المتأخرون ردوا الكلمة إلى (خسرو)، فتجد بعض المؤلفين اسمه (خسرو) على الاسم القـديم، ومعنى كلمة (زندكي): الحياة أو الزمان أو الدهر، والعرب يسمون الذي لا يؤمن بالبعث (دَهري) بفتح الدال، أما (دُهري) بالضم فهي نسبة سماعية على غير القياس، فالقياس أن النسبة إلى دَهْر (دَهْري) بالفتح، فالعرب تقول: (دَهري) أي: لا يؤمن بالبعث، ويعتقد ببقاء الدهر، وأنه هو المتحكم في سير الخلائق، وقد حكى الله ذلك عنهم بقوله: ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))[الجاثية:24]. فـالدهريون هم الذين لا يؤمنون بالبعث ولا باليوم الآخر، فأطلق عليهم الزنادقة نسبة إلى كلمة (زندكي) وهي تعني الدهر.
ونستنتج مما تقدم أن الصحيح أن الزنديق: هو الدهري الذي لا يؤمن بالبعث ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وقد ظهر هذا المصطلح في تلك الفترة؛ لأن من الفرس من دخل في دين الإسلام كذباً وزوراً، وأخذوا يدسون ويكيدون للنيل منه، أما في زمن بني أمية فكان الإسلام ظاهراً عزيزاً قوياً فلم يستطيعوا أن يظهروا شيئاً من مقالاتهم، فلما جاء بنو العباس -وإنما قام ملكهم على أكتاف الفرس- قام بالدعوة إليهم أبو مسلم الخراساني، وجاء من خراسان بجموع هائلة وقاتلوا الأمويين حتى أسقطوا دولة بني أمية وأقاموا بدلاً منها دولة بني العباس، وكان غرض أبي مسلم الخراساني إقامة دولة شيعية غالية باسم بني العباس، تكون شيعية في الظاهر مجوسية في الباطن، ولكن بني العباس فطنوا إلى ذلك وكان السفاح أول من تولى أمر الدولة العباسية، ثم جاء بعده أخوه أبو جعفر المنصور، وكان أبو مسلم الخراساني قائداً له، وكان أبو جعفر المنصور من دهاة الرجال، ويروى عنه في الدهاء العجب العجاب، ففطن إلى أبي مسلم وإلى خطره وضرره، وبعد أن مكن له أمره ووطد له الملك قتله وقضى عليه، وقامت إثر ذلك حركة عظيمة في الفرس، وظهرت فرقة يقال لها: (الأبي مسلمية ) نسبة إلى أبي مسلم فحاربت الدولة العباسية محاربة شديدة، ولكن أبا جعفر المنصور انتصر عليها وأهلك الله تعالى أبا مسلم الملحد ومن معه، فتحول المجوس إلى دور التستر وإظهار الإسلام، ونشطوا في الدس له باطناً وذلك نتيجة لعدم قدرتهم على المجاهرة له بالحرب، وصاروا يدسون الإلحاد والكفر والزيغ في نفوس جهلة المسلمين.